مدينة مليانة بولاية عين الدفلى: ممر ابن بطوطة ومعقل الأمير عبد القادر
تقع مدينة مليانة على بعد 100 كم غرب العاصمة الجزائرية، هي ليست مجرد مدينة ذات تاريخ مرتبط بوجوه ثورية واجهت الاستعمار الفرنسي، أمثال الشهيد علي لابوانت والشهيد أحمد بوقرة ومؤسس الكشافة الجزائرية محمد بوراس. بل هي مدينة ضاربة في عمق التاريخ تجمع الجمال الطبيعي والمعالم التاريخية والأعياد الشعبية، كعيد الكرز، الذي يعرف في المنطقة بنوعيته الرفيعة لدرجة تسميته بـ "حَبُ الملوك"، إضافة إلى الأعياد الدينية كالمولد النبوي الشريف ومولد سيدي أحمد بن يوسف. هذه العوامل كلها اجتمعت لتجعل من المدينة مقصداً مغرياً للسياح والزوار.
مراجعة تاريخية
يعود تأسيس مدينة مليانة إلى الحقبة الرومانية. حينها سماها مؤسسها الإمبراطور أوكتافيوس زوكابار (بين القرنين 27 و25 ق.م)، وجعلها حامية عسكرية. لم يكن خيار الإمبراطور أوكتافيوس عبثياً، بل كان مدروساً من وجهة نظر رجل عسكري، رأى في علوها بـ720 متراً عن سطح البحر، وتفرع مسالكها نحو مناطق عديدة، ما يؤهلها لتكون مركزاً حربياً.
خيار أوكتافيوس عززته خيارات أخرى لمن تبعه في استيطان المدينة من حضارات ودول أخرى، فقد أعاد بولغين بن الزيري الصنهاجي بناءها عام 972م، وجعلها عاصمة سياسية على جزء كبير من بلاد المغرب، قبل أن يستولي عليها المرابطون عام 1081، فالموحدون عام 1149، ثم الزيانيون عام 1308، لتصبح إمارة مستقلة حتى وصول العثمانيين للمنطقة. مرّ بها الرحالة العربي الأشهر ابن بطوطة ذهاباً، قادماً من تلمسان، وإياباً عائداً من صفاقس بتونس، متوجهاً إلى طنجة بالمغرب، وزارها أيضاً التازي والإدريسي والحسن بن وزان.
مدينة مغرية لا تفوتوا زيارتها في الجزائر
عام 1835 دخلها مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، وشيد فيها مؤسسات سياسية وعسكرية وجعل فيها مقراً لخلافته. عام 1840 احتلتها الجيوش الفرنسية، بعد مقاومة شرسة من أهاليها بقيادة الخليفة بن علال.
معالم المدينة التاريخية
متحف الأمير عبد القادر
الأمير عبد القادر بن محي الدين من أشهر الأمراء العرب في التاريخ. سياسي ومحارب ورجل فكر معروف بتأسيسه للدولة الجزائرية الحديثة. مرّ بمدينة مليانة وإدراكاً منه لأهميتها حوّل مقر إقامة القائد التركي المعروف باسم "دار الباي" إلى مقر لخلافته بين العامين 1835 و1840. نال هذا المبنى المؤسس على الطريقة العثمانية شهرة واسعة، ما جعل الإمبراطور الفرنسي لويس نابليون الثالث يزوره عام 1865، بعد تغيير اسمه إلى "دار الأمير" مع الاحتلال الفرنسي للمدينة.
أعيد افتتاح المبنى كمتحف بعد إعادة تأهيله عام 2000 من قبل رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة. يحوي المتحف عدة قاعات كانت في الأصل حجرات صالحة للسكن أو العمل من أهمها:
قاعة الآثار الرومانية: تحوي بقايا معمارية، ونصباً أثرية، وقطعاً نقدية كشواهد مادية عن مدينة زوكابار الرومانية.
قاعة المخطوطات والإثنوغرافيا: تحوي مجموعة من المخطوطات التي تعود إلى القرنين 18 و19 حول علوم الدين واللغة والحساب، إضافة إلى مجموعة من الحلي والألبسة والصناعات التقليدية، وكنز نقدي يعود إلى عهد الموحدين (القرن 12).
قاعة المقاومات الشعبية: تضم مسدسات وبنادق تقليدية، وعدداً من الوثائق التاريخية والصور، واللوحات الزيتية المخلدة لبطولات الأمير عبد القادر.
قاعة التراث المنجمي: تحوي أدوات وقاطرة أشغال لمناجم جبل زكار القريب من المدينة، إضافة إلى صور ووثائق حول المنجم.
قاعة حرب التحرير الوطنية: خصصت هذه القاعة لتاريخ ثورة التحرير الوطنية، وتضم مجموعة من صور لقوافل شهداء المنطقة، ووثائق وقطع أسلحة وعدداً من اللوحات الزيتية المخلدة لنضالات أبناء المنطقة.
منارة جامع البطحاء أو ساعة المدينة
معروف أن الأمير عبد القادر رجل دين أيضاً، وليس غريباً أن يتخذ من المبنى المقابل لمسجد البطحاء، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الحقبة العثمانية، مقراً لإقامة الخليفة.
مسجد البطحاء واحد من 25 مسجداً كان موجوداً آنذاك في المدينة. خرّبه المستعمر الفرنسي عام 1844 وجعل من أرضيته ساحة فسيحة أطلق عليها اسم "ساحة كارنو"، ولم يُبقِ سوى على منارته التي حولها إلى ساعة. أطلق اسم القديس "سانت بول" على الشارع الذي يضمها، والآن تنسب الساحة إلى الأمير عبد القادر.
يقول مصطفى، أحد عمال البلدية المكلفين صيانة الساعة، إن الجميع يقدّر قيمتها الكبيرة التي لا تأخذها فقط من وزنها التاريخي والأثري، بل من مكانها القريب من المتحف، الذي يعد قلب المدينة، إذ تقام حوله الاحتفالات ذات الطابع الديني.
مسجد ومزار الولي سيدي أحمد بن يوسف
تفيد الوثائق الرسمية بنسب الوليّ الشهير أحمد بن يوسف (1436-1524) إلى الإمام علي بن أبي طالب، ويحتفظ السيد عنتري بوزار بالعقد الأصلي، كإثبات نسب لهذا الولي الصالح، الذي تُسرد عنه أخبار كثيرة عن كرامات خارقة.
يؤدي المسجد الآن وظيفته كمكان لأداء الصلاة، بينما أقفل المزار منذ سنوات في وجه الزائرين الطامعين في "شفاعة" الوليّ، بحجة الترميمات التي يعود تاريخ بدايتها إلى عشر سنوات. ولم يمنع الإغلاق الزائرين من التمسح على أعتاب باب المزار، وقضاء وقت في فنائه الرحب والمجهز بكراس حجرية تستخدم للجلوس حيناً، وأحياناً لكسر حبات البيض لأغراض تبقى حبيسة في نفوس من يقدم على هذا الأمر!
السور الروماني
يعتبر السور الروماني أحد أشهر معالم المدينة، ملتقى للأصدقاء والعائلات، التي تتخذ من المقاهي البسيطة المنتشرة على طوله مكاناً للراحة والاستمتاع بالجو خصوصاً في مساءات الصيف. يطوق السور الجهة الجنوبية لمليانة ويعطي رؤية بانورامية لمدينة "الخميس" الواقعة على بعد 7 كيلومترات أسفلها.
تقام أمام السور حفلات للموسيقى الأندلسية، التي تشتهر المدينة بكثرة فرقها وعراقتها. كما أعطاها عدد من الشباب طابعاً عصرياً، بتشكيلهم فرقاً لرقص الهيب الهوب، ويتدربون ويقدمون عروضاً مصغرة هناك.
ويشيع حال السور انطباعاً صريحاً ومباشراً بإهمال رسمي فظيع وغير مبرر، فقد تداعى جزء منه وسقط عام 2012 بسبب الرياح والأمطار، وتعرض جزء آخر للتلويث المتعمد منعاً لتجمع العشاق. إذ يعتبر جلوس ثنائي في مكان عام في الجزائر عيباً يجب محاربته. أنشأ السور في الفترة الرومانية كحماية للمدينة، وهو الآن بحاجة إلى من يحميه من الأيادي المخربة.
لوحات الشرف
قدّمت مليانة عدداً من الوجوه الثورية التي تحولت إلى أيقونات، وهم حاربوا المستعمر الفرنسي. أكثرهم شهرة الشهيد علي لابوانت المولود في المدينة عام 1930. والشهيد محمد بوراس مؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية، واحدة من الوجوه السلمية التي أثارت ذعر الاستعمار الفرنسي بسرعة توسعها ودقة تنظيمها واتصالاتها داخل البلاد وخارجها.
خصصت للشهداء عدة لوحات شرف تزين ساحات المدينة، أهمها لوحتان مقابلتان للحديقة العمومية الكبرى للمدينة. دونت عليهما أسماؤهم لتبقيا فخراً لعائلاتهم التي لا يزال عدد كبير منها يسكن المدينة.
مصنع الأسلحة
أسسه الأمير عبد القادر عام 1839 معتمداً على استخراج المواد الأولية من مناجم جبل زكار. وقد صُنّعت فيه الرماح والبنادق وساهم في تأخر احتلال المدينة عشر سنوات بعد احتلال العاصمة. وقوبلت محاولات غزو المدينة بالصد العنيف من السكان، وانتهت بتكبيد فرنسا خسائر فادحة. عام 1841 قاد الجنرال الشهير بيجو بنفسه الحملات على المدينة، لتلحق به أول هزيمة منذ دخوله الجزائر، على يد خليفة الأمير محمد بن علال الذي أعد العدة لصد الهجوم في هذا المصنع.
خضع المبنى لإعادة تأهيل أواخر 2015، تحضيراً لاستقبال الوزير الأول الجزائري، وهي عادة إدارية تجعل التكفل بالمرافق العمومية رهن زيارة المسؤولين الكبار في الدولة.
المبنى لم يعد مصنعاً للأسلحة، بل متحفاً يضم قاعات عرض في الطابقين الأول والثاني، وقاعة للاستقبال، وقاعة للنشاطات، وبيتاً للضيوف، وقاعة للمطالعة في طابقه الثالث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق